تاريخ الفن... لماذا؟

رحلة استكشافية في عالم فلسفة الفن وعلم الجمال

خالد عبد اللطيف

5/8/20241 min read

قد تكون كلمة (الفن) من أكثر الكلمات ذيوعًا في المفردات اللغوية الحالية، وأكثرها ابتذالًا كذلك، فبينما لن تجد – على أغلب الظن – اتفاقًا على مدلول كلمة الفن وتعريفها، إلا أنه لم يمر على الإنسان حينًا من الدهر لم يَصُغْ أو يصنع ما يمكن أن نطلق عليه فنًا. حقًا، إنه لمن العسير أن نتفهم ما الذي يجمع العمارة والشعر والتصوير والنحت والموسيقى لكي تندرج كلها تحت مصطلح واحد - الفن، إلا أن إصرار الإنسان على توليتها الاهتمام وإدماجها كعنصر من عناصر حضارته على الرغم من التدافع الدائم بينها وبين الفلسفة والدين والعلم، أقول إن هذا الإصرار قد جعل من الصعب التغاضي عن دراسة الحالة الفنية كظاهرة ذات مفهوم وأطر.

إنك قد تذهب إلى متحف ما لتجد آنية خزفية من العصور الوسطى معروضة جنبًا إلى جنب مع بوابة خشبية عملاقة منقوشة وفي الغرفة المجاورة لوحة معاصرة غير مفهومة المعالم فتبتسم لها ابتسامة المتأمل لكنك لا تلبث أن تنجو بنفسك من القاعة قبل أن يكتشف الزائرون من حولك زيف تلك الابتسامة. حقًا، إن المتحف أو قاعة العرض أو أكاديميات الفنون ليسوا بالضرورة شهادة لجودة المعروضات أو أهميتها، لكنها تحمل في طياتها الرغبة الإنسانية لاكتناز ما يضمن للحضارة ذاكرتها وثقافتها، وما هو ذلك الوعاء الأقدر والأكثر ديمومة على احتواء تلك المسؤولية من الأعمال الفنية؟ وما هو ذلك العنصر الذي يجمع تلك الفنون؟ وهل يصمد ذلك العنصر في عصر الفن "التجاري" والذكاء الاصطناعي؟

ما هو الفن؟

لم يكن من السهل قبل القرن الثامن عشر، قبل ظهور المتاحف والمعارض، الوصول إلى أي عمل فني، خصوصًا الأعمال البصرية، لدراسته أو حتى مشاهدته، واقتصر الأمر على الاستمتاع بها في السياقات الدينية كالمساجد والكنائس وربما المراسم الملكية، إلا أن ذلك لم يمنع البشر من الاستمرار في التعبير الفني حتى وإن قلت "المشاهدات".

تعود كلمة فن Art في اللغة الإنجليزية إلى مثيلتها في اللغة اللاتينية Ars واللغة الإغريقية techne، ومع ذلك فإن الكلمة لم تكتسب الدلالة المباشرة التي نستخدمها اليوم حين الحديث عن الفن والتي يفهم منها الفنون الجميلة fine arts ، مثل الرسم والنحت والموسيقى والأدب، فكلمة فن قد خدمت مهارات أخرى أشمل وأكثر عمومية كالطب والبستنة والنحو والبلاغة والأدب والمهن اليدوية كالنجارة وغيرها ويمكن أن يكون ذلك هو سبب بقاء اسم كليات الآداب في اللغة الإنجليزية باسم كلية الفنونFaculty of Arts حيث تم اطلاق ذلك المصطلح على كثير من الأنشطة الحضارية والثقافية. ومع ذلك، فقد تمت التفرقة بشكل واعي في التراث الإنساني بين الفنون اليدوية والفنون التي نطلق عليها الآن الفنون الجميلة باستخدام مصطلحات أخرى مثل فنون المحاكاة Arts of imitation والتي استخدمها أفلاطون وأرسطو للإشارة إلى فنون مثل الرسم والشعر والموسيقى والتراجيديا، وتبدو دلالة المصطلح واضحة جلية فقد اعتبروا تلك الفنون مجرد محاكاة للطبيعة.

يرى أفلاطون أن للحقيقة ثلاثة صور: الحقيقة المطلقة التي صاغها الله (المُثُل Forms) وهو مطلق أبدي ولا نهائي وغير مادي وطريقة إدراكها الوحيدة العقل وهو العلم المطلق، الصورة الثانية (الجزئيات الحسية Articles) وهي صورة من المثل المطلقة، مثل الأريكة التي صنعها نجار وعلي الرغم من أنها تحمل قدرًا من الفائدة للبشر وقدراً من المعرفة للصانع إلا إنها لا تعدو أن تكون صورة للأصل المطلق الإلهي، الأريكة بمعناها المطلق. أما الصورة الثالثة وهي الصورة الفنية (الشعر أو الرسم) فهي لا تعدو أن تكون صورة عن الصورة الأرضية فالفنان في الفنون التقليدية مجرد مقلد لم يستطع حتى أن يدرك الصنعة أو الحرفة التي أتقنها الصانع فالفنان بتعبير أفلاطون "قد نزع نفسه عن الحقيقة مرتين"، فلا الشاعر (كهوميروس) مدرك لحقيقة المعارك والحكم والملاحم التي يتغنى بها ولا الرسام مدرك لكيفية صناعة الأريكة التي رسمها من زاوية واحدة.

يشجب أفلاطون أيضا فكرة تجمع جمع من البشر في مسرح أو أمام شاعر ليسرد عليهم مشاعر سلبية بعيدة كل البعد عن مشاعرهم الحقيقة فكما أنه من المفترض على الشخص ألا يعيش في حزنه ويحاول الخروج منه وتغليب عقله فما المنطق من محاولته استيراد مشاعر سلبية أخرى في شعر أو لوحة أو مسرح؟ إن فنون المحاكاة، بحسب رأيه، غالبًا ما تخاطب الجانب المظلم السلبي في النفس الإنسانية.

على الصعيد الآخر في محاورته مع آيون، يقرر أفلاطون على لسان سقراط رؤيته للمصدر الإلهي للفن، فيحاول إقناع آيون، وهو راوي الملاحم المتخصص في رواية أشعار هوميروس، أن الفن (الشعر) ذو مصدر إلهي غير مرتبط بصنعة الشاعر أو موهبته، وشبه العملية الفنية بالمغناطيس الذي يجذب حوله كريات الحديد واحدة تلو الأخرى وكل واحدة تصبح في ذاتها مصدرًا لقوة الجذب للكرة التي تليها حيث إن الوحي الربانيMuse هو المغناطيس الذي يجذب الشاعر ذاته ومن ثم راوي الملاحم Rhapsode الذي يجذب المستمعين بدوره.

أما في العصور الوسطى الأوروبية التي غلب عليها الفلسفة المسيحية والأفلاطونية الجديدة، تم استخدام مصطلح الفنون الحرة Liberal Arts للإشارة للفنون العقلية والتي انقسمت إلى نوعين من العلوم: الثلاثية، وهي الثلاثة علوم الخاصة باللغة: النحو، والبلاغة، والمنطق، والنوع الثاني الأربعة علوم (الرباعية Quadrivium) الخاصة بعلوم الرياضيات Mathematics وهي: الحساب، والهندسة، علم الفلك، والموسيقى، التي عادة ما ارتبطت دراستها بالرياضيات بعكس فهمنا لها الآن. أما المصطلح الآخر فهو الفنون الميكانيكية mechanical arts للإشارة للفنون اليدوية التي احتوت بدورها على فئات كثرة من الصناعات منها: صناعة الأسلحة والتجارة والأعمال المعدنية وأحيانًا الخيمياء والزراعة، فها هو القديس والفيلسوف بونا فينتور يعرف الفنون الدرامية على أنها أعمال تهدف إلى تعزية الانسان والمتعة كذلك، كما ضمها إلى المهارات الميكانيكية.

يقسم بونا فينتور "أنوار" المعرفة لأربعة أنواع: النور الذي يساعد الانسان على تقدير الفنون والحرف ويسمى نور المهارة الميكانيكية، النور الثاني، نور المعرفة الحسية، والذي يساعدنا على معرفة الأشكال الطبيعية عن طريق الحواس، النور الثالث وهو المعرفة الفلسفية وهو النور الذي يساعدنا على ادراك المفاهيم المجردة والحقائق العقلية وهو نور داخلي حيث يتطلب السبر في الأسباب الداخلية والمخفية، أما النور الأخير وهو نور النص المقدس ويسمى أيضًا النور الأعلى لأنه يؤدي إلى معرفة نماذج من الحقائق المجردة بطريقة تتخطى المنطق والعقلانية.

وعلى الرغم من البون الشاسع بين المعرفة الإلهية والمعرفة الميكانيكية إلا أن بونا فينتور يقرر أننا يمكننا العثور على الحكمة الإلهية في فنون المحاكاة حيث الغرض الوحيد منها هو إنتاج الأعمال الفنية. فيمكننا أن نجد التولّد الأبدي وتجسيد "الكلمة"، واتحاد الروح مع الله، وهذا صحيح إذا أخذنا في الاعتبار مهارة الفنان، ومدى تأثير العمل الفني، وتوظيف المميزات التي يمكن اشتقاقها من ذلك العمل. كما نجد في كتاباته الكثير من المقارنة بين عملية خلق الله للإنسان وعملية خلق الفنان للعمل الفني والتي يحاول من خلالها تأصيل أسباب الخلق وهي توحد روح الإنسان مع خالقها، بالتالي فإن العملية الفنية نفسها، سواءًا صناعتها أو تلقيها، فهي في مسار توجيه الانسان نحو الاتحاد مع ربه.

أما عند المسلمين فليس أدل على فهمهم للفن أنه محاكاة للطبيعة من أدلة تحريمهم لتصوير كل ذي روح فقد ذهب النووي لتحريم تصوير الكائنات الحية حيث يرى أنها محاولة لمجاراة صنع الخالق فيما خلق، وعلى الرغم من تلك الرؤية التحريمية للتصوير إلا أن البعض يبعد شبهة تحريم الفن التصويري عن الإسلام حيث إنه ارتبط بنبذ الشرك بالله ومقاومة المشركين، أما إذا كان للزينة لا مشكلة فيه. ومع ذلك فلم يتوان المسلمون عن التصوير في كتبهم من منمنمات أخذوا فكرتها عن الفرس والبيزنطيين هذا طبعًا بخلاف زخارفهم النباتية البديعة في العمارة من مقرنصاتٍ وأرابيسك، الأمر الذي حذا بمؤرخ الفن الانجليزي فالديمار إلى تسمية العمارة الاسلامية بعمارة الفردوس، وكأنهم أرادوا صناعة جنةً أرضية في مبانيهم تقربهم من جنة ربهم.

على جانبٍ آخر فقد أطلق العرب لفظ الصناعة على فنون المحاكاة Imitation Arts كالشعر والتصوير، ويبدو أنهم وضعوا الطبيعة في مقابل الصناعة. يروي أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات أنه كان بصحبة قوم يستمعون إلى غناء صبي صغير بديع الصنعة حتى أن أصحابه ترنحوا وتهادوا وطربوا فقال لهم: "حدثوني بما كنتم فيه عن الطبيعة لما احتاجت إلى الصناعة، وقد عرفنا أن الصناعة تحكي الطبيعة وتروم الالتحاق بها والقرب منها، على سقوطها دونها؟ وانما حكتها وتبعت رسمها وقصت أثرها لانحطاط رتبتها عنها" ولم يستطع أحد من رفاقه أن يفسر حاجة الطبيعة إلى الصناعة، فعاد التوحيدي يقول لهم:” إن الطبيعة مرتبتها دون مرتبة النفس، تقبل آثارها، وتمتثل بأمرها، وتكمل بكمالها، وتعمل على استعمالها، وتكتب بإملائها، وترسم بإلقائها، والموسيقى حاصل للنفس موجود فيها، على نوع لطيف وصنف شريف، فالموسيقار إذا صادف طبيعة قابلة، ومادة مستجيبة، وقريحة مواتية، وآلة منقادة، أفرغ عليها من تأييد العقل والنفس لبوسًا مؤنقًا، وتأليفًا معجبًا، وأعطاها صورة معشوقة، وحلية مرموقة، وقوته في ذلك تكون بمواصلة النفس الناطقة. فمن ههنا احتاجت الطبيعة إلى الصناعة، لأنها وصلت إلى كمالها من ناحية النفس الناطقة، بواسطة الصناعة الحادثة، التي من شأنها استملاء ما ليس لها، وإملاء ما يحصل فيها، استكمالًا بما تأخذ، وكمالًا لما تعطي". هذا النص يدل على أن العرب فهموا الفن على أنه الإنسان (النفس) مضافًا إلى الطبيعة، وبهذا الهدف تسمو الصناعة (الفن). وقد كان لفيلسوف عصر النهضة الفرنسي بليز باسكال والفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون أقوالا بنفس المعنى.

القرن الثامن عشر

يعتبر القرن الثامن عشر فترة تحول في تنظير الفن، حيث تمت صياغة مصطلح الاستطيقا Aesthetics على يد الفيلسوف الألماني ألكساندر بومجارتن ليؤسس بذلك علمًا مستقلًا لدراسة الجمال والفنون وهي الكلمة المشتقة من Aesthesis اليونانية والتي تعني (الادراك) أو (الإحساس)، وقد أراد بومجارتن من هذا الفصل إنشاء علمًا مستقلًا لدراسة فلسفة الجمال عمومًا والفن خصوصًا. ويعتبر ايمانويل كانط من أوائل الفلاسفة الذين طرحوا رؤيتهم للاستطيقا ودراسة الجمال كجزء من منهجهم الفلسفي.

الأمر الثاني المهم في تلك الفترة أنها اعتبرت مدخلًا لتراتبية الفن (هيرا ركية Hierarchy) حيث إننا نعلم أنه ثمة فنون راقية تقع تحت مصطلح الفنون الجميلة Fine Arts – Beaux Art ويعزو الكُتَّاب هذا المصطلح إلى الكاتب الفرنسي تشارلز باتوه Charles Batteaux الذي صاغه للإعلاء من شأن بعض الفنون: (التصوير والنحت والعمارة والشعر والموسيقى) في مقابل فنون أخرى يمكن تسميتها الفنون التطبيقية (يضم البعض السينما والتصوير الفوتوغرافي في تلك الفئة). وعلى الرغم من أنه لم يكن بأي شكل أول من قسّم الفنون إلا إننا لا يمكن أن ننكر أنها تلك الفنون المشار إليها هي التي تقفز إلى الذهن مباشرة عند سماع مصطلح الفن (Art with a capital A).

يعقد كانط مقارنة في كتابه (نقد ملكة الحكم) المقارنة بين ثلاثة أنواع من الحكم الإنساني، فالأول هو الحكم بأن شيئاً ما مقبول Agreeable وهو يعني به حكماً ذاتيًا صرفًا حيث يرى الانسان ملاءمة الشيء له شخصيًا بدون أسباب موضوعية منطقية، أما إذا كانت هناك حكمًا عامًا بأسباب عقلية فحينها يخضع لأحكام الخير The Good، ويختلف الاثنان عن الحكم الجمالي (الجميل) Aesthetic فهو حكم ذاتي في الحقيقة لكن ذو عمومية مبطنة غير مدعومة بأي منطق أو أسباب عقلية، فالإنسان حينما يحب اللون الأرجواني على سبيل المثال ويعتبره "ملائم" لذاته لا يطمح بذلك لعمومية في هذا الحكم ولكنه إذا أراد بذاك التمثال أو المبنى أنه "جميل" فهو، وعلى الرغم من عدم قدرته على إبداء أسباب موضوعية لهذا الحكم، إلا إنه يتوقع أن هذا الحكم من المفترض أن يكون هو الحكم العام على هذا الشيء (حتى على الرغم من معرفته إن هذا غير حادث فيقول كانط: "أما عندما يحكم (الإنسان) على الشيء أنه جميل، فهو يعزو بذلك الرضا نفسه للآخرين، وهو لا يحكم لنفسه فقط ولكن لكل انسان غيره أيضًا، فيتكلم عندئذٍ عن الجمال كما لو كان خاصية للأشياء" وقال أيضًا: "ذلك لأن الحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي في كون أن من الممكن افتراضه صادقًا بالنسبة للجميع. ومع ذلك فإن تلك العمومية لا يمكن أن تنجم عن مفاهيم (أفكار مجردة)، إذ لا يوجد انتقال من المفاهيم إلى الشعور باللذة والألم." الجدير بالذكر هنا أن ذاتية الفن عند كانط تعني أن الحكم بالجمال على شيء ما تخضع للشعور باللذة والألم للشخص نفسه وليست صفة خاصة للأشياء.

ومن خلال ذلك يعرف كانط الذوق بأنه:" ملكة الحكم على شيء، أو على ضرب من ضروب التمثل representation بالرضا أو عدم الرضا، خلواً من أي مصلحة، وموضوع مثل ذلك الرضا هو الجميل."

يمكننا من خلال ذلك التعريف أيضًا التعرف على صفة أخرى عزاها كانط للحكم الجمالي، وهو أن (الجميل) يعتبر رضًى خالي من أي مصلحة، "ذاك أنه لا يؤسس على مَيْل ما في الذات ولا على أية مصلحة أخرى متعمدة" وبالتالي فمن وجهة نظره أن الفن (الذي هو جزء من الجميل) لا يتم الحكم عليه بدعوى أي مصلحة نفعية مباشرة أو غير مباشرة غير اللذة الجمالية التي يضفيها العمل الذي تختبره، أو كما قال: "إن الفن غائية بلا غاية".

النظريات الجمالية:

لم يقنع الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا بمصطلح الاستطيقا أو فلسفة الفن، في حين أنه صاغ فلسفة فنية قوية أكد فيها على معنيين مهمين للفن: معنًى عام ومعنى خاص يجعل من الفن مجرد استجابة للمتعة أو اللذة: لذة الحواس ومتعة الخيال، دون أن يكون للحقيقة أي مدخل في هذه العملية. ويبدو أنه اتفق مع كانط في أن العملية الفنية مكتفية بذاتها دون أن يكون لها غاية من ورائها، وأن قيمة النشاط الفني مستقلة تمامًا عن أي ظروف فردية أو اجتماعية، بل إنه أعطى للقيم الجمالية مكانة أعظم من القيم الأخلاقية نظرًا لاستقلالها عن الحكم النفعي أو الأخلاقي (الذي هو بدوره نفعي حيث يستهدف تقليل الألم) باعتبارها أنقى وأكثر ولكنه، وعلى الرغم من تعريفه للجمال بأنه "تلك اللذة المتجسمة في صميم الموضوع"، إلا أنه اعتقد أن التجربة الفنية تجربة ذاتية صرفة لا يجب أن نتعامل مع أحكامها بعمومية كما قال كانط.

أكد سانتيانا أن للجمال ثلاث مقومات: المادة والصورة والتعبير، أما العنصر المادي فقد أكد أنه الدعامة الأولى، أو الركيزة الأصلية التي يقوم عليها كل عمل فني وفي ذلك يختلف عن بعض ممن لا يألو جهدًا في تحقير التجربة الحسية المادية، فالبارثينون على سبيل المثال لو لم يكن مصنوعًا من الرخام لما كان له نفس التأثير الجمالي، ولو لم تكن النجوم وضاءة بلا نار لما كان لها نفس السحر.

أما عنصر الصورة (أو الشكل) فإن سانتيانا يناقش تأثير الأشكال المجردة في الفنون، حيث يعطي للدائرة على سبيل المثال القدرة على بعث الشعور بالنقاء والأبدية في نفس الوقت الذي تعكس احساسًا بالرتابة بعكس الشكل البيضاوي، كما يناقش أسباب شغف الانسان بالأشكال المتناظرة Symmetrical Forms ويعزيها إلى نظرية (الوحدة في التنوع) التي فسّر بها أيضًا حب الانسان للامتداد الشاسع للسماء أو وفرة النجوم في ظلمة الليل.

أما العنصر الأخير وهو التعبير، فإن سانتيانا فسره على أنه مجموعة من التأثيرات الانفعالية التي تضفي على المضمون الجمالي لأي عمل فني دلالة وجدانية خاصة، تختلف باختلاف الذكريات والارتباطات التي تتولد في ذهن المتذوق لهذا العمل، ويؤكد لنا أن القوة التعبيرية لأي موضوع إنما تمثل مجموعة من الشحنات الوجدانية التي انضافت لهذا الموضوع والتي تنبع من حالتنا الوجدانية نفسها ومشاعرنا وذكرياتنا.

اعترض ليو تولستوي، الروائي الروسي المعروف، على النظرة الجمالية الصرفة للفن وادعى أن مثل تلك النظرة تعادل نظرة الشخص للطعام أو الغذاء على أنه لذة فقط دون النظر إلى الفائدة المادية منه، وصاغ نظرية أخرى تهدف إلى أن الفن وسيلة للتفاعل الاجتماعي بين البشر وكما أن اللغة هي الوسيلة لتلاقح الأفكار فإن الفن هو الوسيلة لتبادل المشاعر والتجارب.

قد يبدو أنه أصبح هناك اتجاهًا لمفارقة الفن بمفهوم "المحاكاة" ودعوة لفصل الرؤية الفنية عن كونها انعكاس أو انطباع للطبيعة، الأمر الذي أكد عليه الروائي الفرنسي (أندريه مالرو)، فنراه يقرر أننا لا يمكن أن ننفذ إلى جوهر الإبداع الفني، اللهم إلا إذا آلينا على أنفسنا أن نستبعد من دائرة الفن، لا كل نزعة تقول بالمحاكاة أو التقليد فحسب، بل كل نزعة تعبيرية موضوعية أيضا وأن الثقافة الغربية هي الوحيدة التي ظنت أن التشابه "عامل جوهري في الفن" في حين أن المحاكاة قد ظلت مجهولة في أفريقيا وجزائر المحيط الهادي وحتى مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين والصين. كما أن الفنان نفسه حتى في محاولته للتقليد لابد وأن يصبغ العمل بالكثير أو القليل من وجهة نظره ويحور العنصر المقلد بالتضمين والتقليل والاختصار والاسهاب أحيانًا.

وعلى الرغم من أن الأعمال الفنية الكبرى تستثير لدينا إحساسات هائلة، وانفعالات قوية، إلا أن السبب في هذه الاستثارة لا يرجع مطلقًا إلى كونها موضوعات مشتقة من الحياة، أو منتزعة من الواقع. وتبعًا لذلك فإن الفن ليس هو الطبيعة منظورًا إليها من مزاج شخصي، اللهم إلا إذا كانت الموسيقى هي البلبل مسموعًا من خلال مزاج شخصي!

يؤكد مالرو أن الابداع الفني لهو هدف مستقل بذاته قد يستفيد من الواقع أو من الخيال، ولكنه إرادة إنسانية مستقلة، فيقول: “إن غروب الشمس الذي يستثير إعجابنا في التصوير، ليس هو غروب الشمس الجميل، بل هو غروب الشمس الذي صوره فنان عظيم، كما أن الصورة الشخصية (البورتريه) الجميلة لا يمكن أن تكون مجرد صورة لوجه جميل..."

وليس في حياة الفنانين ما يشهد بأن الرغبة في الإبداع قد نشأت لدى الواحد منهم على أعقاب تأثره بمنظر طبيعي أو حادث درامي، يكون هو الذي حرك في نفس الفنان ذلك الشغف الدفين، وإنما الذي يثير الموهبة الفنية لدى الشاعر أو المصور أو الروائي، هو الانفعال الذي يستشعره في شبابه بإزاء بعض الأعمال الفنية الممتازة، مما بدفعه لأن يصيح قائلًا: "وأنا أيضًا سوف أكون فنانًا". ومعنى هذا أن ثمة ثقافة فنية بعينها تجئ دائمًا فتكون بمثابة حلقة اتصال بين الفنان وعيانه الخاص، حتى ليصح لنا أن نقول إن الأصل في عيان الفنان إنما هو "عالم الفن" لا "عالم الطبيعة". وإذن فإن ما يروقنا في لوحة "الثور المذبوح" مثلا لرامبرانت ليس هو شكل الثور أو ضخامة جثته، بل هو تلك الحضرة الفنية التي تجعل من اللوحة بأسرها سيمفونية تشكيلية مؤثرة، أراد الفنان أن يسجلها على صورة حيوان مذبوح يقطر دمًا، لذلك فإن الموضوع الحقيقي بالنسبة للفنان إنما هو الذي يولد في نفسه رغبة في التصوير؛ فالطبيعية عند مالرو هي خادمة للفن وليس العكس!

لم تتوقف نظرية مالرو على رفض النظرة المحاكاتية للفن، لكنه رأى فيه وسيلة البشر للتغلب على الموت، فالفن هو لغة عابرة للثقافات والأزمنة يستغلها الانسان للحفاظ على حضارته من النسيان.

النظرية الشكلية

لم يحمل أحد على نظريات التقليد والمحاكاة بقدر ما حمل الإنجليزي (كلايف بِلْ Clive Bell) في نظريته الشكلية، فهو لم يقف عند حد انكار الطبيعة المحاكاتية للفن بل إنه رفض معظم الأعمال التي حاولت بشكل من الأشكال محاكاة الواقع أو نقل مشاعر أو أفكار. أقول لم يتقبل كلايف بِلْ في عداد الفن إلا الأعمال التي احتوت على ما أطلق عليه "الشكل الدال Significant Form". يعرف كلايف بِلْ الشكل الدال في الفنون البصرية: "إنها تلك التوليفات والتضافرات من الخطوط والألوان، أو تلك الحبكة من الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تثير في المشاهد انفعالًا إستطيقيًّا". ويمكن أن نعمم مفهوم الشكل الدال ليشمل الفنون جميعًا.

وقد استخدم لفظة الانفعال الاستطيقي بدلًا من الانفعال الجمالي حتى يفر من مقارنته بلفظة "جميل" التي يمكن أن نطلقها على أي شيء طبيعي كالوردة أو الفراشة أو ما يراد به فنًا ولكنه ليس بذلك. بالنسبة لكلايف بِلْ، العمل يكون فنًا إذا احتوى على الشكل الدال وليس بفن إذا افتقد ذلك الشكل، لا يوجد فن جيد أو سيء، هو فن أو لا فن.

أما بالنسبة للانفعال الاستطيقي، فإنه تلك الحالة المميزة والشعور المتفرد الذي يصاحب مشاهدتك لعمل فني حقيقي. ورغم أن حالة الوجد الاستطيقي تلك تبدو شخصية وذاتية إلا أنه يعتبر قيمة، يمكن أن يشعر به كل إنسان على حدة، ولكن يتفق أغلب البشر على وجوده ودلالته، يعَرِّفها بِلْ بأنها "كيفية Quality" شأنها شأن صفة "أحمر" حين نصف بها شيئًا من الأشياء، والكيفيات بطبيعتها لا تقبل البرهان؛ لأننا نعرفها بالحدس، وبذلك يرتقي بِلْ بالحالة الفنية إلى مصاف القيم المطلقة غير المادية. أيضًا يرفع بِلْ العمل الفني الحقيقي فوق مستوى الحكم الأخلاقي، أو بالأحرى، كل فن هو أخلاقي؛ ذلك أن الأعمال الفنية، هي وسائل مباشرة للخير، فما إن نحكم على شيٍء بأنه عمل فني حتى نكون قد حكمنا بأنه ذو أهمية قصوى أخلاقيًّا وجعلناه دون منال الداعية الأخلاقي.

يقول بِلْ: "كلنا مثلًا نألف لوحاتٍ تثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزنا كأعمال فنية، تحت هذه الفئة من اللوحات يندرج ما أسميه "التصوير الوصفي Descriptive Painting"... في هذا التصنيف يدخل البورتريهات ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الايضاح بكل أنواعها". ويقول تعليقًا على لوحة محطة بادنجتون الشهيرة لفريث: "... فالخطوط والألوان فيها تستخدم لكي تردد حكايات وتوعز بأفكار وتشير على طرائق وعادات عصرٍ من العصور، إنها لا تستخدم لتبثَّ انفعالًا إستطيقيًّا..." فاللوحة ذات طبيعة تسجيلية فقط وليست فنية ويمكن التجاوز عن ذلك النوع من التصوير بالفوتوغرافيا أوالسينما. ويعلِّق بِلْ: "إن دلالة العمل الفني بالنسبة لهم (رسامي التمثيل) تتوقف على ما يجلبونه له؛ ولذلك لا يضيف الفن شيئًا جديدًا إلى حياتهم... إن العمل الفني الجيد ليحمل الشخص القادر على تذوقه ويخرج به من الحياة على الوجد، واستخدام الفن كوسيلة إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تليسكوب لقراءة جريدة".

إن الفن البدائي، كقاعدة عامة، هو فن جيد ذلك أن الفن البدائي هو أيضًا مبرأ من الخصال الوصفية، ولن تجد فيه غير الشكل الدال، وع ذلك فهو من بين الفنون أعمقها تأثيرًا فينا. ويتصف الفن البدائي كما في النحت السومري أو المصري القديم أو الفن الإغريقي القديم، إلخ ... بثلاث خصال عامة: غياب التمثيل، وغياب الاختيال التكنيكي، وحضور الشكل الجليل التأثير، فالدلالة الشكلية تخسر نفسها إذا هي انشغلت بالتمثيل الدقيق والبراعة المتباهية. من هنا نستطيع أن نجد بعض الأفكار التي نَظَّرت للحركات الفنية الشكلية كالرمزية والوحشية والتعبيرية والتكعيبية والسريالية.

وتبعًا لنظريته الشكلية الصرفة يدَّعي بِلْ أنه ليس من الضروري لتقدير الفن ذاته دراسة تاريخ الفن أو حياة الفنانين، حيث أن العمل الفني يجب أن يبقى منعزلًا عن سياقه طالما تكونت فيه الأشكال الدالة. "ولا يفوتنا أن ننبه أيضًا إلى أن التماس أي منفعة للفن من طريق آخر غير طريق الدلالة الإستطيقية هو إبطال للفن ونفي لماهيته ذاتها؛ فالفن الدعوي والإرشادي والتزيين ليس فنًّا، بل تناقضًا ذاتيًّا، شأنه شأن "النقطة الممتدة" أو "المربع المستدير".

خاتمة

لم نكن بصدد سرد كل المحاولات البشرية لتنظير ما نطلق عليه لفظة "فن" لكننا أردنا أن نستكشف الطريقة التي أراد بها الانسان وضع قواعد وقوانين وتفسيرات لعنصر من أهم العناصر (ويمكن أن يكون أهمها) التي حاول بها استبقاء ثقافته ومد جذوره في الأرض وتحدى بها الزمن، فلم يكن للأديان أو العلوم على سبيل المقال تلك القدرة الرهيبة على مجاراة الزمن كما كانت لأعمال فنية أراد لها الانسان البقاء والتأثير.

Paul Cezanne, The Basket of Apples, Art Institute of Chicago, c.1895

rAPHAEL, sCHOOL OF aTHENS, Apostolic Palace, Vatican Museums, Vatican City, 1509 - 1511